الأحد، سبتمبر 01، 2013

زحمة يا دنيا زحمة..




من أين يبدأ الزحام؟
من بقعة صغيرة في الدماغ تظل نهمة لالتقاط الصور.. و شرهة لإصابة كل خلية في الجسد بذات العدوى، حتى يصبح صاحبها كاميرا فوتوغرافيا تسير على قدمين مزودة بذاكرة على وشك الانفجار لأنها مصرة على التقاط كل شيء.. -وأنا أعني حرفيًا- كل شيء لأن كل هذا الكل شيء في غاية الأهمية و يجب مراقبته و استكشاف تفاصيله وابتلاعها دون شبع، ربما لأنك ستحتاج إلى كتابتها يوما.. أو للتأكد من إن ليك لازمة في الدنيا و هي الاستغراق التام في المعرفة و المراقبة.. من أين يبدأ الصداع؟ من حيث ابتدأ الزحام.. و من أين يبدأ القلق؟ من حيث تمكّن الصداع.. و من أين تصر الشمس على البزوغ؟ من فوق رجل نوبي يسكن سطح بيت قديم و يفترش الأرض خارج غرفته لينعم بقليل من التنفس في ليلة أغسطسية خانقة.. الشمس تبزغ من خلف قفاه تحديدا و توشك على أن تحرق الكوفيرتة.. و طبق الدش الهائل الذي يجاوره لا يصد و لا يرد.. الأصدقاء يظهرون عادة وقت الشدة، و الطبق الصديق الذي يمكن سرقة وصلة منه لمشاهدة سي بي سي دراما برفقة قطة شارع يجذبها الصوت.. الطبق الذي منحه ونسا غير مشروط، ليس صديقا حقيقيا.. و لن يعدل من وضعيته مثلا ليشرب السخونة بدلا منه.. و ستفضّل القطة بير السلم في الصباح لتتمكن من النوم.. و سيبدأ الرجل وحده اليوم في السادسة مضطرا، برغم أنه ليس طالبا جديدا يحمل في حقيبته "كراسة الطلبات" و سندويتشات جبنة بخيار يصبح لدناً بفعل حرارة الجو، وهو في الحقيقة كان يتمناها برجر أو ناجتس..

تنخرط في الزحام قصة "لولو" التي تكشفت براءتها من قتل يونس في أول مشاهد مسرحية للرحابنة، بعد خمسة عشر عاما في الحبس يهتف الجميع " لولو بريّية"  آسفين على التخاذل معها، فتظهر فيروز بفستانها البرتقالي لتغني و يتوقف العالم.. تخبرهم بعد أن تنتهي من غنائها أنها دفعت ثمن جريمة قتل سلفا و الآن عليها أن تقتل أحدهم.. تنخرط في عمل ليستة بأسماء أهل القرية عشان تنقّي هتقتل مين.. تصر على أن يكتب صديقها ماسح الأحذية اسمه في الليستة برغم أنه الذي يكتبها معها من الأساس.. تحاول أن تشرح له أنه إن وقع عليه الاختيار فهذا قدره ببساطة! يحاولون اتهامها بالجنون و تغني " كانوا يا حبيبي" برفقة طبيبها النفسي و أغط أنا في النوم..

ثم تأتي قصة " بياتريس بوتر".. أتذكر فيلمها أساسا بالصدفة، هذا الفيلم يعني
لي الكثيييير.. تقريبا أنا لا أريد أن أفعل أي شيء بحياتي أكثر مما فعلته مس بوتر بحياتها..أحيانا أقول لنفسي: not talented enough.. و أبعث بالفكرة لمؤخرة رأسي و خلاص، ثم أفكر في أني not committed enough..  وأحاول أن أتناسى.. حتى لا أضايق نفسي قد أصل إلى أني not lucky enough! وأنسى الحلم بعد شوية وقت، استغرق في تفاصيل الدوامات اليومية و فوتوغرافيا التفاصيل و محاولة إبقائها على قيد الحياة، و أتذكر فقط نبوءة صديقة بعيدة حلمت بي أدير دار نشر للأطفال.. في نهاية الفيلم تقال جملة رائعة و مخيفة.. تقول مس بوتر أن خطواتها قادتها في النهاية إلى المكان الذي تنتمي إليه.. أقول في عقلي أن هذه أكبر هبة قد تمنحنا إياها السماء، أن نجد أنفسنا بعد كووول دة حيث ننتمي بالفعل.. أن نختبر هذا الشعور – الانتماء- و لو مرة واحدة قبل مانفلسع!


يقفز من الزحام مشهد لكرسيين هزاز متجاورين في بلكونة بيتنا.. يعلق قائم الكرسي في الفراغ مابين قائم الكرسي الآخر وبداية مسنده.. أجلس على أحد الكرسيين و أفاجأ أنني أهز كليهما بحركتي.. أحاول أن أفهم السبب وأخلص القائم فأفشل.. أجلس و خلاص و أبدأ في الحركة، يتحرك الكرسيين معا بسلاسة شديدة دون حتى أن أشعر بوجود اشتباك.. أقصد تشابك.. في الحقيقة بعد هذا المشهد يمكنني أن أفرق بين الكلمتين تماما..أشعر بجمال خاص لحركة الكرسيين معا بهذا الشكل و أكتفي بمراقبة الانسجام.. أفكر أن علاقتنا بالآخر ما هي إلا نوع من لخبطة القوائم هكذا و ترابطها بشكل غير منطقي و غير مفهوم.. كل حركة أصبحت تؤثر على الطرف المعلق بك شئت أم لم تشأ.. التناغم قد يحدث بشكل تلقائي، و قد يحتاج القليل من الجهد لينضبط إذا خرج عن اللحن.. الجمال يسكن حيث تسكن القوائم لتشابكها دون أدنى رغبة في الفلفصة..

من أين يبدأ الجمال؟
من حيث يقوم الزحام بتفنيط نفسه بشكل تلقائي ليضع لك بقع من النور على أماكنك الخاصة فيه.. ومن أين تبدأ السكينة؟ من نفحات الهواء الدالة على أن الشتاء قادم لا محالة هيروح فين؟ كل الأشياء في النهاية ستأتي وكل الأشياء الأخرى ستغيب.. و ستظل قطعة مضلعة من الهواء في منتصف الصدر تمتلئ بالرواسب حد الاختناق ثم تفرغ أحمالها بشكل دوري..



أراقب "دوكا" تنظف نفسها باجتهاد مبهر.. تلعق كل قطعة صغيرة غير واضحة من أطرافها اللدنة و كل الأجزاء التي يمكن الوصول لها من فرائها.. أشعر بالشفقة لحالها و هي منهمكة هكذا في التنظيف دون سبب مقنع! وانا التي أمتلئ برائحة تتبيلة فراخ كنت قد أعددتها منذ قليل وتتنوع البقع على ملابسي مابين زيت ما لا أتذكر مصدره و بقايا صابون غسيل مواعين، لا أمتلك الدافع النفسي اللازم لأرغب في تغيير ملابسي الآن.. كنت على وشك أن أحسد القطط على عدم إصابتها بالاكتئاب قبل أن أتذكر "عطوة"، قط صديق امتنع عن الطعام و أصابه الهزال حزنا على فراق قطة صغيرة كانت ترافقه في غياب أهلها..

قبل أن أنخرط في مزيد من الزحام.. دسست يدي عند فمها كي أحصد شيء من اللعق على أصابعي بالمرة، قد تساعدني رقتها على النوم، و تبعد عني رائحة تتبيل الفراخ اللي جوعتني!

1 التعليقات:

Hegazy Saad يقول...

من أين يبدأ الاستمتاع؟
فى الوصف الحلو اللي يخليك تستمتع بكل تفصيلة مكتوبة لدرجة إنك بتشوف طبق الدش والراجل النوبي وهو بيستمتع بشايه ع السطح وسط الزحمة..
من أين يبدأ الجمال؟
لما تشوف الحياة كلها بأصواتها وزحمتها وقرفها وهمومها فى كتابة مليانة مزيكا وحزن وقدرة غريبة ع الملاحظة
من أين يبدأ الخيال؟
من قدرة شخص على إبداع التفاصيل فى كتابة تاخدك من أول جُملة وما تاخدش بالك إنها خلصت بسرعة.. وتعيد قرايتها من أول وجديد
من أين يُبعث شغف لقراءة والتدوين من جديد؟
لما تقرا تفاصيل ريهام :) :*