منذ أن التـَصَقـَت بي .. قرأتها فورا
....
" لم ترتجفي .. لا .. كانت رقصة صغيرة بهزات متقطعة من أجل حكي صامت .. كنت تشعرين بالبرودة جدا و المقت المبالغ لهذا الضوء الأبيض الذي يجعل كل شيء يبدو شاحبا ،، و حقيقيا ! .. زاد الأمر أنك لم تأنسي لأي من هذه الوجوه الآلية جدا ،، أنا أيضا لا أحبها هذه الوجوه ، و لا أحب كيف أنها تعاملني كقطعة شيء ما فحسب ! دون أية مراعاة لكوني بيضاء .. و لا لكوني أحمل من الأسرار و الحكايا ما لا يزيله المياه و الصابون ،و لا ينقص من تفاصيله انتزاعي بهذه الشدة المبالغة بحجة نقص في الوقت ... "
....
كانت ساخنة .. أغرقتني بعرق طيب يحمل رائحتها .. يخبرها الكثيرين منذ كانت صغيرة أن لها رائحة تخصها وحدها و لم تكن تصدق .. استطعت إقناعها بالأمر بعد ان التففت حولها التفافة قصيرة ناعمة في غفلة من أصحاب الوجوه الآلية ، فاشتمت رائحة كانت تحسبها طوال الوقت رائحة اكتسبتها وسادتها المنزلية من كثرة الاستخدام فحسب ... لم تستطع التبسم للاكتشاف لأنها تشعر بالحنق من الممرضة الشريرة كثيرة التأفف ! و النظرات الموحية بـ " دلع البنات المرق " ، كانت تتمنى فقط أن تغط في نوم عميق بدل أن تدخل في نوبة غضب و بكاء !
....
" كان لكِ الحق التام في أن تبكي كل هذا البكاء .. هم يستغربون الأمر لأنهم أشباه بشر ،، أنا أكثر حياة منهم صدقيني .. دماغك الصغير يقطر فوقي أعذارا تحوم حولهم و لا تلتصق بأي منهم ،، هم أشباه بشر فحسب ، هذا هو المبرر الوحيد !
ربما كنتِ محقة في كونهم يحتاجون الكثير من اللمس و الأحضان الدافئة و الكثير الكثير من الهمس ناحية القلب بالذات، كي يعودوا من حيث قذف بهم الجمود .. الزوجات بالذات ،، تتصورين كل واحدة تحلم الآن بلمسة حانية و تربيتة فوق ظهر الإنهاك من زوج ما ،، تفضل ذلك بالتأكيد على هذا الرداء الوردي الباهت و حنقك و ألمك في وجهها ! .. أعلم ذلك صدقيني ،، و لكنهم أيضا لا يدركون كم هم مؤلم أن تحمل ثلاثة أورام معدنية في أنحاء مختلفة في جسدك .. لأنهم يزرعونها فقط و لم يجربوها قط ... كنت سعيدة بكِ حقا و أنت تسألين الشاب التافه الحانق على بكائك : " جربتها قبل كدة ؟؟ " ،، فوقف شاردا في وجهك و رقبتك التي تحمل ثلاثة إبر بطول عشرة سنتيمترا غرزت فيها منذ ثوان ...
لأكثر من دقيقة ظل مستغربا للفكرة .. ماطلك بسؤال آخر حتى يحيك لكِ ردا يليق : " أيوة جربتها و عارف إنها بتوجع في الأول و بعدين خلاص هتاخدي عليها ،، حركي رقبتك بقى عشان عضلاتها ماتقفش ! "
قمتِ بتحريكها على مضض و البكاء لا يقف .. و كان من حقه تماما كرد فعل أكثر تفاهة من أمره أن يعطيك تقريرا بأنك " رقيقة " .. هذا كل ما في الأمر !
مثلها كمثل تقارير مشابهة كثيرة تبث في أمري .. " متسخة ،، قديمة ،، مبقعة ! "
التقارير السخيفة ذات الكلمة الوحدة التي يبرعون فيها بحق " التهاب .. ذبحة .. كانسر .. كويسة.... " ،،
يبرعون في سردها كموهبة حقيقية !
غادروا جميعا أخيرا و تفرغت لمواساة بكائك .. اختلطت دموعك الهشة برائحة عرقك و ملحك الذي أغرقني فيك منذ البداية .. كنت تتضرعين دون نطق .. " يارب أنام .. يارب أنام .. يارب أنــــام " ،، و لا تفكرين سوى بحديث تحفظينه عن استجابة دعاء المريض و بأنك ستنامين الآن فورا بلا شك ! .. لا تعلمين أنني و كافة الكائنات الصغيرة من حولك كنت نؤمن ،، حتى أن غطاء شعرك الأخضر بكى بحرقة و هو يبتهل " يا اللــــه " كالنساك في المساجد ..
.....
كانت تمقت كونها لا تدرك الوقت ، فقط تسمع الآذان و لا تدرك أي آذان هو ،، لا تدرك بالفعل هل مر النهار بأكمله أم لا .. هذا الضوء " النيون " السخيف لا يوحي بأي شيء ، لا يظهر ظلالا للحركة خارج النافذة .. حتى أن " شيش " النافذة موصد بحكمة .. حتى أن لا ظل له على الأرض .. فوق الحائط .. فوقي ... لا ظلال !
تفكر أن تكاوين الظلال هي واحدة من أشهى نعم الله في الكون ، و أن كل هذا الألم و الإعياء و كمية الضوء الباهت ما هم جميعا سوى تذكرة لها بحلاوة النعمة المنسية فحسب ..
كنت أود لو أخبرها بأنه لو كانت هناك ساعة حائط مثلا لأصابها هوس بأمر الوقت .. و لأحست بأنها لا تستطيع تحمل العقرب الصغير الذي يتمشى على مهل ،و العقربان الكبيران اللذان لا يسيران تقريبا .. و أن صوت الدقات ما كان ليغط بها في أية إغفاءة ! لمحت من تحت غطاء شعرها بعض اللوم لي هبط فوقي بخفة حتى تشربته ،، يروي عن أصوات " المونيتور " الأقرب إلى أجهزة إنذار الحريق ،، بحيث تبدو دقات الساعة كـ " سوناتا القمر " مثلا ... أو مونلايت بيتهوفن في ليلة رائقة !
حاولت الاعتذار .. ضممتها بقوة ،، و غططنا سويا في إغفاءة لساعة ...
....
" السلام على من اتبع الهدى .."
استفقتِ قبلي و أفقتني بهذا السلام ،، و أتممت استيقاظي بسماع الرد الجماعي الخافت عليك ، أنا أعلم أنك لم تريهم بالضبط ،، ربما تذكرت رفقة الملائكة للمرضى فألقيت تحيتك الباسمة .. ردوها بلطف يوازي لطفك .. كانوا حولك يفترشونني معك و الكثير منهم يمسك عن قرب ،، واحد يربت على شعرك من أسفل الغطاء .. واحد ينفخ حول جرح الرقبة ،، آخر يمنع ذراعك من السقوط .. كثيرون يتجولون في الغرفة يبعدون عنكِ ريح البكاء و يهشون عنك ذرات الاختناق و الفيروسات الصغيرة و دقائق الحشرات ...
كنت تسخنين و تبردين فجأة ! و تعودين لتسخني ... يتفتق ذهنك عن فكرة لتهوين الأمر فتبتسمين و تكتمين الضحك على حالك هذه ... هل كنت تقصدين أن أقع في حبك ؟؟
تتخيلين جمعا من الملائكة الصغار يتناوبون على رأسك و ذراعيك بكمادات ضئيلة جدا بحجم كفوفهم في حلقة متصلة دقيقة بسرعة الهواء ،، تبتسمين لدأبهم و تتخيلين إنهاكا في أنفاسهم يشبه إنهاكك للحظات .. تتوقف الحركة فيها فتعودي لتسخني .. حتى يعودوا للدأب السريع جدا فتبردين ! تتمنين عليهم لو يقلوا من دأبهم قليلا حتى تدفي فحسب .. و لكنهم صغار ،، و أنت لا تحبين أن تنهري الصغار ...
....
" بــــــــــخ .."
الرجل الأزرق الطيب و الممرض ذو الوجه السمح حلوا على غرفتنا مثل صباح غائب ،، شعرت بقلبها يدفأ قليلا و يحاول النوم ... همس الرجل الأزرق الطيب بالكلمة في أذنها بلطف حتى يوقظها و ابتسم في وجهها ابتسامة كبيرة ... تذكرت أنها رأته من قبل ،، هذا هو طائر النورس الذي حسبته يهمس في أذنها دون علم من أحد : " بس .. خلاص ،، احنا خلصنا خلاص .. " ،، حتى تتوقف عن البكاء و هم يغرسون في رقبتها الإبر .. و لكنها كانت على ثقة بأنه كان طائر نورس ،، لا يهم ... هو يبدو رائعا في كلتا الحالتين
تحدث معها قليلا عن الحالة ثم خفق بجناحيه للخارج ،، تاركا من أثره الوجه السمح ،، و اختفت الممرضة الشريرة للأبد ...
بدأت صغيرتي تغيب في شبه إغماءة ساخنة و يثقل لسانها إثر دفعة كالسيوم في أوصالها ،، أمطار عرقها تزهر فيّ أوركيدا بيضاء خفية وسط الأنسجة لا يعلم عنها أحد ...
الوجه السمح أغلق جهاز التكييف و أزاح الشيش للأعلى ،، فظهر قليلا من المساء ... أغلق الضوء الباهت فظهرت ظلال خفيفة على الحائط المقابل لنا ،، تبسمت في وجه تكاوين الظلال الشهية و شردت في تداخلاتها حتى غاصت فيّ تماما ... و غابت
......
تمر ثلاثة أيام ،، و في غرفة الغسيل ...
تصرخ رئيسة التمريض في الفتاة التي تقف أمام الأجهزة في ذهول لا تعرف ماذا تقول ! تنهرها على أحد البياضات التي خرجت من بين يديها ممزقة ،، و كمية من بتلات الورد قامت بسد مجرى الشطف الرئيسي ...
الأربعاء، مايو 26، 2010
رعــــاية ..
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
8 التعليقات:
جميلة دااائمًا يا صديقتي ...
ليست الأكثر حنينًا ووحدة تلك الملائة البيضاء ...
.
.
الكثيرون يفتقدونكِ .. بشدة
كوني بخير
شكرا على بالي على التدوينة الجميلة
رابط التواصل
http://tarbiapointcom.blogspot.com/
كمال
جميلة يا ريهام ..
جميلة فعلاً ..
بحب كلامك و طريقتك في الكتابة ..
بحب تمكنك الشديد من تطويع الحروف و تشكيلها بأناقة ..
ألف سلامة يا ريهام ..
دمتِ بكل الخير
اممم
مخيفة !
تسلم يا ابراهيم ..
أنا هنـــا أهو :)
كمال .. العفو ،، أي خدمة :)
و هزور مدونتك أكيد ..
شيماء .. تعليقك بيفرحني دايما
بتقوليلي دايما كلمتين محدش يعرف يقولهم غيرك ;)
مبسوطة أوي ان دة رأيك ..
والله يسلمك يارب .. خليكي منورة دايما
آلوآ
هيا مخيفة فعلا ..
المستشفيات مخيفة و سخيفة :)
مش عارفة ليه خدت مني وقت عشان أستوعبها كويس
بس لما حصل عجبتني جدا ً
جدا ً
:)
حلو قوي يا ريهام بسيط وعميق وممتع عجبني جدا المقطع بتاع
تفكر أن تكاوين الظلال هي واحدة من أشهى نعم الله في الكون ، و أن كل هذا الألم و الإعياء و كمية الضوء الباهت ما هم جميعا سوى تذكرة لها بحلاوة النعمة المنسية فحسب ..
اد ايه فعلا خلتني احس بجمال الظل وقيمته اللي يمكن محدش بياخد باله منها
عندك قدره رائعة علي انطاق الاشياء واخراج كل هذا الجمال فشكرا لك
مهـــا .. فرحتيني
جدا
جدا
أوي خالص :))
نودي ...
وجودك عامل حالة بهجة في المدونة كلهاااا ... منورة بجد
أسعدني جدا تعليقك و ملاحظتك .. هيا فعلا تكاوين الظلال بتبقى رائعة الجمال لو لاحظتيها ،، خصوصا لو في بيرجولا و لا تعاشيق خوص أو خشب ...
اتفرجي عليهاو ادعيلي :)
و خليكي منورة على طول بقى
إرسال تعليق